ملخص المقال
من الطبيعي أن يتساءل المرء عن الهدف من هذه المقارنة والمفاضلة، ولا بد في البداية من التأكيد على أن المقارنة والتفضيل بالقوة بين اثنين لا يعني نفيها عن
من الطبيعيِّ أن يتساءل المرء عن الهدف من هذه المقارنة والمفاضلة، ولا بدَّ في البداية من التأكيد على أنَّ المقارنة والتفضيل بالقوَّة بين اثنين لا يعني نفيها عن أحدهما..
في المخيال الجمعي لجمهور المسلمين يحضرُ أبو بكر رضي الله عنه بوصفه شيخًا رقيقًا سخيَّ الدَّمع تغلبه عبرتُه في مواقف كثيرة، بينما تحضر صورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشَّديدة الحازمة، وتحضر شخصيَّته التي لا تخافُ أحدًا ويحاسب ويعاقب!
ممّا جعلَ انطباعًا يسري في الصورة الذِّهنيَّة العامَّة عند عامَّة المسلمين بأنَّ عمر أقوى من أبي بكرٍ رضي الله عنهما، فتجده أكثر حضورًا في أحاديثهم وأشدَّ تبجيلًا وهيبةً في نفوسِهم.
وأعتقدُ أن هذا يرجع إلى ثلاثة أسباب:
الأوَّل: الصورة النمطيَّة التي رُسِمَت لكلِّ واحدٍ من الخليفتين الرَّاشدَين في كتب السِّير والتَّراجم.
الثاني: طولُ مدَّة خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي امتدَّت عشر سنين مقارنةً بخلافة أبي بكرٍ رضي الله التي لم تتجاوز سنتين ونصف؛ ممَّا جعل حياة عمر رضي الله عنه تلقى اهتمامًا أكبر من حياة أبي بكرٍ رضي الله عنه حتى عند عموم الكتَّاب والدُّعاة والمؤرِّخين.
الثالث: الاستشكال في معنى القوَّة، حيث إنَّ المعنى الانطباعيَّ للقوَّة هو قرين الشِّدَّة والحماسة والاندفاع والإقدام في الحروب والسَّعيُ إلى خوض المنايا والبطشُ بالأعداء؛ وكلُّ هذا من القوَّة طبعًا لكنَّه ليسَ هو روحُها التي تؤهِّل للتَّقديم على الآخرين في القيادة.
روح القوة
إنَّ روح القوَّة تكمن في الثَّبات عند المواقف المفصليَّة، والحزمِ عند تشعُّب المواقف، والمبادرة بالموقف والقرار الحاسم عند وقوع النَّوازل المزلزلة.
إنَّ القوَّة هي قدرةُ فردٍ أو جماعةٍ على التَّأثير في سلوك الآخرين وإحداث أمرٍ فارقٍ في مسار الأحداث والبراعة في المبادرة المفضية إلى حمل الآخرين على التصرُّف بطريقةٍ تُضيف إلى مصالح المشروع الذي يخدمه هذا الشَّخص القوي.
إنَّ القوَّة هي العزم في أوانه بلا تأخُّرٍ أو تردُّد، وهي الإقدام في موضعه بلا تقهقرٍ أو تضعضُع، وهي الشِّدَّة في مكانِها بلا تأجيلٍ أو تسويف، وهي القرارُ الذي لا يحتملُ التَّأجيل ولا يقبلُ التَّهاون.
إنَّ القوَّة هي الثَّباتُ حين تزلُّ الأقدام، وهي الطمأنينة حين تتزلزلُ القلوب وتفرغُ الأفئدة، وهي السكينةُ حين تطيشُ العقول، وهي امتلاك الأعصاب حين يفقد الحليمُ صوابَه وتنفلتُ أعصابُه من عقالِها.
مواقف مفصلية
إذا تتبَّعنا سيرة كلٍّ من أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإنَّ الكثير من المواقف تستوقفنا في إطار المقارنة بين قوَّة الرجلين؛ غير أنَّني سأكتفي بذكر ثلاثة مواقف وسأختارُها من بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث يتجلَّى فيها تفرُّد الشخصية واستقلالها؛ لنرى من خلالها من هو الأقوى.
الموقف الأول: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
لا يشكُّ عاقلٌ في أنَّ الزلزلة الأعظم التي مرَّت على المسلمين في تاريخهم كلِّه هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكم أن تستحضروا هذا اليوم الذي كان أشدَّ إظلامًا في تاريخ الأمَّة؛ حيث طاشت العقول والقلوب وزلَّت الأقدام وخرج الناس من دين الله أفواجًا.
في ذلك اليوم المفصلي لم يُصدِّق عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وامتشق سيفه مهدِّدًا كلَّ من يدَّعي ذلك بأن يفتك به.
وقال مخاطبًا الناس: "إنَّ رجالًا من المنافقين يزعمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تُوفِّي، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات ولكنَّه ذهب الى ربِّه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلةً ثمَّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى؛ فليُقطِّعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم زعموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات".
أمَّا أبو بكر رضي الله عنه فقد أقبل حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر، وعمر يُكلِّم الناس، فلم يلتفت إلى شيءٍ حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف البُردَة عن الوجه الشَّريف، وأخذ يُقبِّله وهو يقول:
"بأبي أنتَ وأمي، أمَّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثمَّ لن تُصيبَك بعدها موتة أبدًا".
ثمّ خرجَ إلى الناس وعمرُ يكلِّمهم فقال: "على رسلك يا عمر، أنصِتْ"، وعمر لا يستجيب؛ فأقبلَ على الناس يُخاطبهم، فلمَّا سمع الناس كلامَه أقبلوا عليه وتركوا عمر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال:
"أيُّها الناس، إنَّه من كان يعبد محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت".
ثمَّ تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
قال عمر: "والله ما هوَ إلَّا أن سمعتُ أبا بكرٍ تلاها، فعُقِرْتُ حتى وقعتُ إلى الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات".
لا يختلف أحدٌ في أنَّ موقف الصديق رضي الله عنه عَصَمَ الأمَّة وحافظ عليها في أحرج السَّاعات وأحلكها؛ يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الموقف الثاني: بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوصى بإنفاذ جيش أسامة الذي وجَّهَه لقتال الروم في الشام، غير أنَّ ارتداد قبائل العرب وضع الصحابة الكرام أمام معطياتٍ جديدة، فأشاروا على أبي بكرٍ رضي الله عنه أن يُوقِف بعث أسامة، ويُبقيه في المدينة لحمايتها من القبائل التي ارتدَّت وتتربَّص بالمدينة.
وكان عمر رضي الله عنه من أبرز الصحابة الذين حاولوا ثني أبي بكرٍ عن إنفاذ بعث أسامة؛ فكيف يُمكن إرسالُ جيشٍ إلى أطراف الشام والمدينةُ مهدَّدةٌ تهديدًا خَطِرًا من قبائل الرِّدَّة المحيطة بها؟!
لكنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه أعلنها مدوِّيةً بكلِّ وضوحٍ وجلاء قائلًا: "والله لا أحلُّ عقدةً عقدَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّ الطَّير تخطَّفَنَا والسِّباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرَّت بأرجل أمَّهات المؤمنين لأُجَهِّزَنَّ جيشَ أسامة".
وفعلًا أُنفذَ بعث أسامة، وكانت نتيجته مبهرةً على المستويين الدَّاخلي والخارجي؛ فعلى المستوى الخارجي فقد حقَّق الجيش نصرًا كبيرًا على الروم الذين فرُّوا ولم يصمدوا للمواجهة عند بلوغ جيش أسامة إلى أطراف الشام.
وأمَّا على المستوى الدَّاخلي وهو الأهم؛ فقد حقَّق الجيشُ حالةً من الرَّهبة في نفوس قبائل العرب التي بدأت تُقدِّرُ بأنَّ المسلمين لو لم يكونوا يملكون جيوشًا أكبر من بعث أسامة لَمَا أقدموا على إرسال جيشٍ لمقاتلة الرُّوم، فألقيَ في قلوبهم الرُّعب وعَدَلُوا عن التَّفكير بمهاجمة المدينة التي كانت خِلوًا من أيِّ جيشٍ حينها.
فكان هذا الموقف صورةً من صور القوَّة بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما تُوضِّح بجلاءٍ من هو الأقوى.
الموقف الثالث: حروب الردة
تصف السيدة عائشة رضي الله عنها حالَ المسلمين بعد ارتداد قبائل العرب كلِّها عدا مدنٍ ثلاثٍ هي مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف بقولها: "لمـَّا تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نَجَمَ النِّفاق، وارتدَّت العرب، واشرأبَّت اليهوديَّة والنصرانيَّة، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في اللَّيلة الشاتية".
كان رأي عمر رضي الله عنه الذي كان ينطق باسم جمعٍ غفيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم عدم مقاتلة المرتدِّين وموادعتهم على الرغم من تمرُّدهم على الدَّولة، بل إنَّهم عرضوا على أبي بكر رضي الله عنه تحييد بعض المرتدِّين وقبائلهم ببعض المال يُدفَع لهم.
وحاول عمر رضي الله عنه إقناع أبي بكرٍ فقال له: "يا خليفة رسول الله تآلف الناس فأرفق بهم؛ فأجاب الصدِّيق رضي الله عنه: "أجبَّارٌ في الجاهليَّة خوَّارٌ في الإسلام، قد انقطع الوحي وتمَّ، أينقص الدِّين وأنا حيٌّ؟!".
عندها أعلن أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ وضوحٍ لعمر رضي الله عنه قائلًا: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإنَّ الزكاة حقُّ المال". ثمَّ قال في قوَّةٍ بالغة: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يُؤدُّونه إلى رسول الله، لقاتلتهم على منعه".
وحين حاول عمر رضي الله عنه ثنيه بالتساؤل عن الجيوش التي ستُحارب أين هي؟! قال أبو بكرٍ رضي الله عنه بكلِّ قوَّة: "أُقاتلهم وحدي حتى تنفردَ سالفتي".
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فوالله، ما هو إلَّا أن رأيت أنَّ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنَّه الحق".
ثمَّ يُعلِّق بعد ذلك على قوَّة أبي بكر يوم الرِّدَّة فيقول: "والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمَّة جميعًا في قتال أهل الرِّدَّة".
ولقد حفظ الله تعالى الدين كلَّه بأبي بكرٍ يوم الرِّدَّة، وما زلنا نُعاينُ ثمار القُّوَّة التي واجه بها هذه المحنة الفاصلة في تاريخ الأمَّة كلِّها.
وهذه المواقف تكشف بجلاءٍ مَنْ هو الأقوى، وقد أشار ابن القيم رحمه الله تعالى إلى هذا فيقول: "كان الصديق رضي الله عنه أشجعَ الأمَّة بعد رسول الله؛ برز على الصحابة كلِّهم بثبات قلبه في كلِّ موطنٍ من المواطن التي تُزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيُثبِّتهم ويُشجِّعهم".
ما القيمة من هذه المفاضلة والمقارنة؟!
من الطبيعيِّ أن يتساءل المرء عن الهدف من هذه المقارنة والمفاضلة، ولا بُدَّ في البداية من التَّأكيد على أنَّ المقارنة والتَّفضيل بالقوَّة بين اثنين لا يعني نفيها عن أحدهما، وهذا ما لا يحتاجُ إلى تأكيدٍ ونحن نُقارن بين أوضح نموذجين في القوَّة الفذَّة، وأشهر علمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهما "الشَّيخان" في الإسلام من مبتدئه، وسيبقيان كذلك ما بقيت هذه الأمَّة وهذا الدِّين.
ومن أهمِّ ما يُفيد في هذه المفاضلة تشكيلُ الوعي بمفهوم القوَّة، لا سيَّما عند الشباب الذين يعيشون الآن في مرحلةٍ من أقسى مراحل الصِّراع بين الحقِّ والباطل.
بالإضافة إلى تصحيح النَّظرة إلى التَّاريخ ورسم منهجيَّاتٍ راشدةٍ في الحكم على الشَّخصيَّات التَّاريخيَّة تتجاوز حالة الصُّورة الانطباعيَّة التي تشكَّلت بعيدًا عن التمحيص الدَّقيق.
فضلًا عن الارتباط بذلك النَّموذج الفذِّ الذي حقَّق الفترة الراشدة النَّاصعة في تاريخ هذه الأمَّة الطَّامحة إلى الحريَّة والكرامة والقوَّة الرَّاشدة.
التعليقات
إرسال تعليقك